وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اجتمعوا على اللقاء فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام. وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، وقال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ووقف التصرف في العير والأسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لإتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسما هذه الأقاويل، وأن ما عليه المشركون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون … يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217] . فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قد استها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتني على وقاحة ودعارة. وبعد ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح الأسيرين، وأدى دية المقتول إلى أوليائه «1» . تلكم السرايا والغزوات قبل بدر، لم يجر في واحدة منها سلب الأموال وقتل الرجال، __________ (1) أخذنا تفاصيل هذه السرايا والغزوات من زاد المعاد 2/ 83، 84، 85، وابن هشام 1/ 561 إلى 605، ورحمة للعالمين 1/ 115، 116، 2/ 215، 216، 468، 469، 470 وفي المصادر اختلاف في ترتيب هذه الغزوات والسرايا، وفي تعيين عدد الخارجين فيها- واعتمدنا في ذلك على تحقيق العلامة ابن القيم والعلامة المنصور فوري.
إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري، فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أوتوه قبل ذلك من الأفاعيل. وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين، وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريبا، ثم يقتلوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة- كما فعلت جهينة وبنو ضمرة- ازدادوا حقدا وغيظا، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل، من إبادة المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر. أما المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش، في شهر شعبان سنة 2 هـ، وأنزل في ذلك آيات بينات وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 190، 191، 192، 193] . ثم لم يلبث أن أنزل الله تعالى عليهم آيات من نوع آخر، يعلم فيها طريقة القتال، ويحثهم عليه، ويبين لهم بعض أحكامه فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها. ذلِكَ، وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد: 4، 5، 6، 7] «1» . ثم ذم الله الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال: فَإِذا __________ (1) حقق الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي تحقيقا مدللا أن سورة محمد نزلت قبل بدر، راجع تفهيم القرآن 5/ 11، 12.
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الآية [محمد: 20] . وإيجاب القتال والحض عليه، والأمر بالإستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الأحوال، ولو كان هناك قائد يسير أغوار الظروف لأمر جنده، بالإستعداد لجميع الطوارئ، فكيف بالرب العليم المتعال، فالظروف كانت تقتضي عراكا داميا بين الحق والباطل، وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على غيرة المشركين وحميتهم، آلمتهم، وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر. وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي، وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا، انظر كيف يأمر الله المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في الأساري، والإثخان في الأرض، حتى تضع الحرب أوزارها، هذه كلها إشارة إلى غلبة المسلمين نهائيا. ولكن ترك كل ذلك مستورا، حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل الله. وفي هذه الأيام- في شعبان سنة 2 هـ/ فبراير 624 م- أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد دخلوا في صفوف المسلمين لإثارة البلبلة انكشفوا عن المسلمين، ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة. وفي تحويل القبلة إشارة لطيف إلى بداية دور جديد، لا ينتهي إلا بعد إحتلال المسلمين هذه القبلة، أو ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم، وإن كانت بأيديهم فلا بد من تخليصها يوما ما. وبعد هذه الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين، واشتدت نزعاتهم إلى الجهاد في سبيل الله ولقاء العدو في معركة فاصلة. غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
سبب الغزوة قد أسلفنا في ذكر غزوة العشيرة أن عيرا لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال، ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء، ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة، وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر. كانت العير مركبة من ثروات طائلة من أهل مكة، ألف بغير موقرة بالأموال، لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلا. إنها فرصة ذهبية لعسكر المدينة، وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو أنهم فقدوا هذه الثروة الطائلة، لذلك أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين قائلا: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الإنتداب أنه سيصطدم بجيش مكة- بدل العير- هذا الإصطدام العنيف في بدر، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا الماضية، ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة.
مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات واستعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا (313، 314، 317 رجلا) ، 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين، و 61 من الأوس و 170 من الخزرج. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا (
ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا واحدا. واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردّ أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة. ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض. وقسم جيشه إلى كتيبتين: 1- كتيبة المهاجرين، وأعطى علمها علي بن أبي طالب. 2- كتيبة الأنصار، وأعطى علمها سعد بن معاذ. وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش كما أسلفنا- وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء ولما ارتحل منها، ترك طريق مكة بيسار، وانحرف ذات اليمين على النازية- يريد بدرا-، فسلك في ناحية منها، حتى جذع واديا يقال له: رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق، ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، وهنالك بعث بسيس بن عمر الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير.